محمد غازي الاخرس
لا أتذكر إن كان الأمر جرى عام ٢٠٠٥ أم العام الذي تلاه، لكنني لن أنسى الضجة التي قادها ناشطون مدنيون وفنانون تشكيليون بسبب ما فُهم حينها وكأنه تخريب متعمد لحديقة الأمة وتشويه لها.
ذهب بضعة ناشطين للحديقة ومعهم لافتات تتهم أمانة بغداد بالجهل وتعمّد تشويه المعلم البغدادي الأصيل، وكل ذلك لأنها قررت تشييد مبنى في الحديقة ليكون مركزا ثقافيا. كان ثمة هدمٌ لجزء من الحديقة ورفع للأنقاض وغير ذلك مما أوحى بمشهد تخريبي غير مسؤول.
أتذكر أنني، حين سمعت بالتظاهرة، سارعت لإرسال عدسة البرنامج الثقافي الذي أعدّه لمواكبة الموضوع. ومن ثم، أرسلت المقدمة لأمانة بغداد كي نقف عند حقيقة ما يجري في الحديقة. وكان جواب المسؤولين أنهم بصدد تطويرها وليس تخريبها، وإن على الناشطين انتظار النتائج وليس استباقها.
غير أن الجواب لم يكن مقنعا حينها، لا بالنسبة لنا، ولا لغيرنا، فمشهد الحديقة بدا مريعا، في زمن كانت الثقة فيه بمؤسسات الأمانة جد متدنية، الأمر الذي أثّر في طريقة تعاطينا مع المشروع فتعجلنا واستبقنا النتائج، وحكمنا عليه بالفشل.
المهم أنه بعد قرابة سنتين من تلك الضجة، اكتمل المشروع وافتتح المركز، ومع افتتاحه، استعادت حديقة الأمة الكثير من ألقها، عادت الأشجار تورق والحشائش تمتد، وشرع المشردون يرتادونها من جديد.
وفي ذات يوم، وأنا أقطعها، وصولا لسيارات “حي أور”، تذكرت الضجة التي افتُعلت بحسن نيّة، فابتسمت من “تهوري” في صنع ذلك التقرير، ثم قلت لنفسي - التوبة من هالنوبه.. لن أتعجل بعد الآن في إطلاق حكم ما لم أكن متأكدا من كل معطياته، ولن أتورط في إبداء موقف، تماشيا مع موجة جماعية، ما لم آخذ السياق بنظر الاعتبار وأتيقن مما أسمع.
ولكن لماذا تذكرت تلك الحادثة الآن؟ هل ثمةّ شيء مشابه جرى؟ نعم، هناك شيء مشابه راقبناه مؤخرا وهو يتفاعل على خلفية موضوع يتعلق بتمثال أبي نؤاس. فهذا التمثال تعرض للأذى باقتلاع لصوص قطع المرمر من قاعدته، وتركه يجلس على “الرنكات” كما نقول في اللهجة الدارجة. نعم، تابعنا الموضوع الذي تحوّل من مجرد تنبيه إلى نقدٍ مزرٍ للأمانة كونها لم تحفظ أبي نؤاس من لصوص الشوارع. بل إن بعض الناقدين الناقمين ذهبوا أبعد من ذلك واشتطوا في النقد لدرجة أنهم اتهموا الأمانة بالـ”دعشنة”!
شخصيا، آثرت الانتظار، فلعل شيئا يتضح بعد حين. وبالفعل، ما هي إلّا بضعة أيام حتى بادرت الأمانة لتكسو قاعدة أبي نؤاس من جديد، وهذا ليس فضلا منها، بل هو جزءٌ من وظيفتها التي وجدت من أجلها.
مع هذا، وليس من باب الدفاع عن الأمانة التي تبدو مترهلة في أدائها، وغالبا ما تحتاج إلى التنبيه لقصورها. غير أن اتهامها بالـ”داعشية” لا يعكس نقدا قدر ما يعكس موقفا من دولة ما بعد 2003.
فهؤلاء ينظرون لكل شيء بعين السخط، ولا يقتصر الأمر عندهم على هذا الشأن أو ذاك، بل يشمل
كل ما في العراق. البلد، في نظرهم، خراب في خراب ولا أمل فيه أبدا.
نعم، تذكرت حديقة الأمة وسوء ظننا بمؤسساتنا الخدمية، وتعجلنا في الحكم عليها. تذكرت ذلك وابتسمت، ثم حمدت الله أنني لم أتهور هذه المرة كما جرى معي قبل عشر سنوات، فتأمل أعزك الله.
نشر: احلام جداح











